" أكثروا مِن ذكر هاذم اللذات "
- الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم -
عُدنا اليوم إلى الجامعة بعد إنقضاء إجازة العيد السعيد، وكالعادة التقيتُ زميلاتي وأخذَت كلٌ منا تسأل الأخرى عن أحوالها
فإذا بإحداهن تقول: لا زلتُ أعيش، لأن الموت لم يتذكرني ..
أدهشني ردها، فبادرتُ بسؤالها: ولِمَ هذا التشاؤوم؟
أجابت: ومن قال لكِ أنني متشائمة، أنا لستُ متشائمة، ولكنني بالفعل أشعر برغبةٍ في الموت ..!
أخذتُ أتحدث إليها بلهجة دينية ناصحة
ولكنّها فاجئتني فعلاً بقولها:
ولأجل ذلك أنا الآن قمتُ بسداد ديوني، وأطلب منكم أن تسامحوني، وها أنا الآن اكثر إلتزاماً بحجابي وبِبرّي لوالديّ
همستُ إليها متساءلةً: هل تنوين الإنتحار؟!
غضبت مني وأخبرتني: بالتأكيد لا، فهذا أمرٌ محرم، هي مجرد رغبة شديدة في الموت لا أكثر ..
إبتعدتُ عنها، وجلستُ جانباً وأغمضتُ عيناي، فقد قلّبت عليّ المواجع، وجعلتني أخاف عليها، أخاف على فقدانها .. أخاف من افكارها .. لا أدري..!!
فهي ذكرتني بأستاذٍ صديقٍ لنا منذ سنوات، كان يعدّ رسالة الدكتوراة في الأدب والنقد، باحثاً حول موضوع موت المؤلف، بطريقة فلسفية غامضة
استمرّ في إعداد هذه الرسالة سنوات، وكنّا ننتظر منه الإنتهاء منها وطرحها ومناقشتها بفارغ الصبر، وكانت نظرتنا له كلّها أمل..
حتى وَعَدَنا ذات يوم، بأن النهاية ستكون واقعية، وسيجعلنا نعيشها، لم نفهم شيئاً من حديثه ولم نُلقي له بالاً
حتى جاء اليوم الذي استفقنا فيه على خبر وفاته، وكانت الرسالة بالفعل قد انتهت.. ووصلت
- رحمه الله -
قرأتُ ذات مرة مقولة لـ فرويد قالها بعد تحليل ودراسة :
" كما أنّ هناكَ غريزةٌ للحياة، فهناكَ أيضاً غريزةٌ للموت "
أي أن للإنسان غريزة تحثّه على الرغبة في البقاء .. والعيش .. وأن يكافح لكي يعيش أطول، تشتعل حدّة هذه الغريزة في كثير من الأحيان
وهناكَ أيضاً غريزة أخرى، هي تلك الرغبة العميقة في الموت .. والفناء .. وأن يمرض لعلّه يموت، أو يصاب بما يجعله عاجزاً عن العمل والحياة
فيستعجل الموت .. !
منهم من يكتفي بهذه الرغبة، ويتركها تنمو بداخله نفسياً مترجماً ذلكَ أدبياً لا أكثر، لأسباب دينية عقائدية ..!
ومنهم من يترجم هذه الرغبة وينمّيها فعلياً .. كإدمانه للخمور والمخدرات والإنتحار و.. و..
ومنهم من ينمّي هذه الرغبة بداخله دون أن يشعر .. ليجد نفسه فجأةً أنه اقترب من الموت ..
ولذلكَ مظاهر عديدة .. نمارسها كثيراً في حياتنا اليومية .. أنا وأنتَ وهي وهو ..!!
منها: الإسراف في الطعام .. قيادة السيارة متجاوزين السرعة القانونية .. التدخين .. الإكتئاب .. الغموض والإنطواء
وتختلف أسباب هذه الرغبة أو الإرادة في الموت .. مما يضطرني لطرح هذا الموضوع لعلّنا استطعنا الإبحار في دواخلنا ودواخلهم العميقة ..
فهذه الرغبة تظهر نتيجة لشعورٍ بالقلق .. أو شعورٍ بالراحة والسكينة ..!!
فالموت وذكره يُثير القلق عند البعض مما يؤدي بهم للرغبة في الخلاص من هذا القلق والعمل على مواجهته، فهو في كلّ الأحوال طريقٌ صعبة، لا محالة
في حين أنه يُثير الطمأنينة عند البعض الآخر - كما عند الصوفيين ورجال الدين الناشدين للموت طلباً لرؤية الخالق - حيثُ أنهم يرونه الطريق الأسهل، والأضمن لبلوغ السعادة
فكم من الراغبين بالموت الآن حولنا ؟؟
وكم مرةً رغبنا نحن بالموت، بقصدٍ منّا وبدون قصد ؟!!
لماذا ؟ مالأسباب؟
ماذا نريد؟!
ماذا أرادوا ؟!
هل هي طبيعة تستهويها النفس البشرية، كما ترجمها هيراقليطس بمقولته:
"إننا نحيا بواسطة الموت، ونموت بواسطة الحياة"
أم أنه قنوط .. وجزع ..؟؟!
فذكر الموت الذي أوصانا به رسولنا الكريم، بعيد وبمنأ عن رغبة هؤلاء بالموت
علماً بأن هذه الرغبة لن تغيّر شيئاً في قضاء الله وقدره .. ولكنّها وبالٌ على صاحبها، نفسياً .. اجتماعياً .. أسرياً .. ولربما دينياً